القاعدة الاساس في موضوع التيسير هي (المشقة تجلب التيسير)، عد علماء القواعد الفقهية هذه القاعدة (المشقة تجلب التيسير) من بين خمس قواعد يذكر ان جميع مسائل الفقه يرجع اليها. المشقة هنا بمعنى الصعوبة. المشقة المقصودة هنا: هي «التي تنفك عنها التكليفات الشرعية، اما المشقة التي لا تنفك عنها التكليفات الشرعية: كمشقة الجهاد، وألم الحدود، ورجم الزناة، وقتل البغاة، والمفسدين، والجناة فلا اثر لها في جلب تيسير ولا تخفيف» ..
التيسير: يرادف التخفيف، فمن ثم اشار الفقهاء الى هذا المعنى عند ذكر اسباب التسير بقولهم (واعلم ان اسباب التخفيف في العبادات وغيرها سبعة وهي: السفر، المرض، الاكراه، النسيان، الجهل، العسر وعموم البلوى، النقص».
هذه اسباب عامة لا تختص بحالة دون حالة، واقع الحال في شعيرة الحج في الوقت الحاضر الذي يفد لأدائه مئات الالوف تصل اعدادهم الى الملايين هل يمكن ان نضم الى تلك الاسباب اسبابا اخرى خاصة ببعض الامور الشرعية كالزحام غير المألوف بالجموع الغفيرة غير المعتادة كالزحام في الحج عموما، وبعض المشاعر والشعائر خصوصا.
هل يصح ان نضم مثل هذا السبب الى تلك الاسباب؟
احسب ان احدا يعيش تجربة هذه الشعيرة كاملة باستقلالية كاملة دون اعتماد على تحضير مسبق، او تسهيلات توطئ له الامور يمانع في ذلك.
جاء في درر الحكام شرح مجلة الاحكام:
ان الصعوبة التي تصادف في شيء تكون سببا باعثا على تسهيل وتهوين ذلك الشيء، وبعبارة اخرى: يجب التوسيع وقت الضيق، وان التسهيلات الشرعية كلها مستندة على هذه القاعدة، وقد صار تجويزها دفعا للمشقة، وجلبا للتيسير.
التيسير مبدأ مطلوب، ومقصد رفيع من مقاصعد الشريعة في عموم الاحكام، تضافرت به الآيات القرآنية والاحاديث النبوية الشريفة، مجمع على الاخذ به في الاعمال، والاحكام الفرعية، وضع الفقهاء لهذا المقصد قوانين مفصلة، واسسوا له ضوابط وقواعد محكمة حتى لا يلتبس الامر على المكلفين.
هذا المقصد تميزت به جميع شرائع الاسلام واحكامه في اسلوب تشريعي مرن، هو اشد ظهورا، وابرز فعالية في شعيرة الحج في اداء الفرد، والجماعة على السواء، لما تشهده مشاعر الحج من جموع المسلمين باعداد كبيرة في زمان ومكان محدودين، لهذا فان روح السماحة والتيسير بدت واضحة ظاهرة في اجابات المصطفى صلى الله عليه وسلم في العبارة الخالدة، الجامعة المانعة لهذا المبدأ الشرعي عندما يتوجه اليه سؤال في شأن من شؤون الحج بقوله: (افعل ولا حرج)، يمكن لم شتات هذا المقصد العظيم بادئ ذي بدء في خمس قواعد:
فيما يأتي توضيح وتفصيل هذه القواعد الاربع والتمثيل لها من شعيرة الحج في المباحث التالية:
تجلى الاتجاه نحو التيسير واضحا صريحا، ودليلا قاطعا في الآتي:
أولا: اجابات المصطفى صلى الله عليه وسلم في العبارة الخالدة، الجامعة المانعة لهذا المبدأ الشرعي عندما كان يوجه اليه سؤال في شأن من شؤون الحج بقوله (افعل ولا حرج) فيما تواترت روايته عن اسامة بن شريك رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجا فكان الناس يأتونه فمن قائل:
يا رسول الله: سعيت قبل ان اطوف، أو اخرت شيئا، او قدمت شيئا، فكان يقول: لا حرج، لا حرج الا على رجل افترض عرض مسلم وهو ظالم فذلك الذي حرج وهلك ) اخرجه الحاكم في صحيحة المستدرك على الصحيحين، واخرجه الدارقطني، واخرجه ابن حزم في صفة الحج الكبرى.
ثانيا: ومما يعضد هذا المقصد الشرعي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حج مرة واحدة، تلك هي حجة الوداع، وبرغم هذا حدث اختلاف في بعض الاحكام بين الفقهاء، وقد اثار هذا الموضوع سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: قلت لابن عباس رضي الله عنه كيف اختلف الناس في وقت تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حج الا مرة واحدة؟
قال لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دبر صلواته فسمع ذلك قوم من اصحابه رضوان الله عليهم اجمعين فنقلوه، وكان القوم يأتونه ارسالا فلبى حين استوت به راحلته فسمع تلبيته قوم فظنوا انه اول تلبيته، فنقلوا ذلك، ثم لبى حين علا البيداء فسمعه اخرون فظنوا أنه اول تلبيته فنقلوا ذلك، وايم الله ما اوجبها الا في مصلاه.
اهل الحديث جمعوا رواة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا ثلاثين نفرا، فعشرة منهم تروي انه كان قارنا، وعشرة انه كان مفردا، وعشرة انه كان متمتعا..
يتابع العلامة السرخسي تحقيق هذا السبب في اختلاف الفقهاء بحاسة الفقيه الواعي في موضوع اختلاف الرواية في صفة حج رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: «فنوفق بين هذه الروايات فنقول: لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم اولا بالعمرة فسمعه بعض الناس، ثم رأوه بعد ذلك حج فظنوا انه كان متمتعا فنقلوا كما وقع عندهم، ثم لبى بعد ذلك بالحج فسمعه قوم اخرون فظنوا انه كان مفردا بالحج، ثم لبى بهما فسمعه قوم اخرون فعلموا انه كان قارنا، وكل نقل ما وقع عنده، وهو نظير ما رويناه من توفيق ابن عباس رضي الله عنه في اختلاف الروايات في وقت تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم..
نتيجة لهذا اختلف الفقهاء في بعض احكام الحج، وكان من اسباب هذا الاختلاف ما رواه الصحابة رضوان الله عليهم، ونقلوه حسب مشاهدتهم، كل اخبر حسب رؤيته، وصحت روايته لدى كل واحد منهم، فمن ثم نتج عن اختلاف الرواية اختلاف الائمة رضوان الله عليهم حسبما بلغتهم، وصحت روايتهم له.
ثالثا: اجتهاد الأئمة رحمة من الله تعالى واختلافهم مبني على: فهم النصوص لاعتبارات مقاصدية، واصولية، واخرى فقهية، مع تأمل للحالات الواقعية، والاعتبارات الشخصية، والزمانية، والمكانية، وهو ما يسمى لدى علماء المالكية بـ (فقه الحال)، وما نسميه اليوم بـ (فقه الواقع)، ومآلات الاحكام.
في ضوء هذه الاعتبارات قرر الفقهاء ضابطا فقهيا في شعيرة الحج ينسجم ومواقف النبي صلى الله عليه وسلم في حجته واستفتاء اصحابه رضوان الله عليهم هو: (ان فعله صلى الله عليه وسلم محمول على الافضل) ويعني هذا فقها ان ما عداه جائز، فاضل.
رابعا: تأثر الفقهاء في دراسة احكام المناسك بكل ما تقدم فجاءت عباراتهم دائما تردد ذكر حكم الجواز للفعل، وذكر الافضل في الاداء.
يتم هنا تتبع هذا لمقصد الشرعي (التيسير) في شعائر منى بخاصة:
1- رمي جمرة العقبة يوم العيد:
جواز رميها بعد نصف الليل مطلقا للقادر والعاجز، الافضل رميها بعد طلوع الفجر لمن قدر على ذلك.
2- نحر الهدي، أو ذبحه:
وقته الافضل عقب رمي جمرة العقبة قبل الحلق، واما اذا كان الهدي واجبا بسبب الاحرام في تمتع، او قران، او غيرهما من الجبرانات والمحظورات فوقته من حين وجود سببه.
3- الحلق، أو التقصير:
الافضل الحلق، والجواز هو التقصير.
4- طواف الافاضة:
الذي به تمام الحج، اجمع فقهاء الاسلام على ان طواف الافاضة والسعي لمن لم يسبق له سعي الحج، الافضل يوم النحر بعد طلوع الفجر، وقت الجواز بعد نصف ليلة العيد عند الشافعية والحنابلة.
اخر وقت الاداء عند الحنفية والشافعية، والحنابلة غير محدود، المالكية تمام شهر ذي الحجة.
من تمكن من الوصول الى مكة المكرمة قبل نصف الليل فانه يؤدي شعائر طواف الافاضة والسعي اذا خاف على نفسه من شدة الزحام التي تمتلئ بها جنبات المسجد الحرام، وأدواره بعد نفر الناس بعد رمي جمرة العقبة، وقد كان يؤديه بعض العلماء الثقات من علماء مكة المكرمة حين كان يتيسر لهم الوصول الى مكة المكرمة مبكرا.
5- تقديم سعي الحج لأهل مكة:
قال الشيخ ابو نصر: ويجوز لمن احرم بالحج من مكة اذا طاف للوادع لخروجه الى منى ان يقدم السعي بعد هذا الطواف.
يقول العلامة ابو الحسين يحيى العمراني الشافعي (ودليلنا ما روي ان ابن عمر كان يفعل ذلك اذا احرم من مكة، وروي ان ابن الزبير لما اهل هلال ذي الحجة اهل وطاف وسعى وخرج، واجاز ذلك القاسم بن محمد، ولانه اذا جاز ذلك لمن احرم من غير مكة جاز ذلك لمن احرم منها.
6- ترتيب مناسك يوم النحر:
نص الفقهاء على ترتيب مناسك يوم النحر كالتالي: رمي جمرة العقبة أولا، ثم النحر، او الذبح ثانيا، ثم الحلق، او التقصير ثالثا، ثم طواف الافاضة، رابعا.
من الفقهاء من يرى استحباب الترتيب وانه لا دم على من خالف ذلك عمدا، أو سهوا وهم الحنفية والشافعية والحنابلة ومنهم من يرى وجوب الفدية على المتعمد.
7- صلاة العيد:
سقوطها عن الحاج للاشتغال في ذلك اليوم بالمناسك: من الرمي والذبح والحلق وطواف الافاضة وغيرها.
التنوع التخييري في الاحكام
يتجلى هذا المقصد فيما يطالب المكلف بادائه لواحد من امور متعددة، له اختيار ما يناسبه منها، وينسجم مع حالته المادية، او الصحية بما يخفف عنه مشقة التكليف، وهذا ظاهر في كثير من شعائر الحج، وعباداته منها على سبيل المثال:
1- الميقات وهو نقطة البداية التي يحرم منها الحاج حسب الجهة التي هو فيها ليس محدودا بنقطة محددة، بل يحرم قاصد الحج من المكان الذي يسهل عليه الاحرام منه من ميقاته الذي يمر به وكما هو معروف ان المواقيت تقع على اودية واسعة ممتدة امتدادا طويلا يبلغ عشرات الاميال فمن اي نقطة احرم منها الحاج اجزأه، وان كان الافضل بداياتها.
2- انواع الاحرام: الافراد والقران، والتمتع، والاطلاق.
3- اتساع وقت الوقوف بعرفة، والمزدلفة والمبيت بمنى حيث تمتد زمنا.
4- رمي الجمرات يمتد وقته من الفجر الى الفجر، او من الزوال الى الفجر حسب الاختلاف المذهبي.
5- هدي التمتع والقران: ذبح شاة نسكا ان يكن الحاج موسرا بقيمة الدم، والا فصيام عشرة ايام: ثلاثة في الحج، وسبعة اذا رجع، ومن عليه فديه، لترك غير مأذون فيه، وهو ترك الاحرام من الميقات او الرمي او الجمع بين الليل والنهار بعرفة، او المبيت بمزدلفة او بمنى، او طواف الوداع.. فمن ترك واجبا من هذه لزمه دم شاة فصاعدا، فان عجز فالاصح -عند الشافعية- انه كالمتمتع فيصوم ثلاثة ايام في الحج وسبعة اذ رجع الى أهله، وقيل اذا عجز قومت الشاة دراهم واشترى بها طعاما وتصدق به، فان عجز عن الطعام صام عن كل مد يوما.
6- العقوبة لفعل محظور من محظورات الاحرام «ذبح شاة، او اطعام ستة مساكين، كل مسكين نصف صاع، او صايم ثلاثة أيام، مرتكبه مخير بين الامور الثلاثة».
7- التحلل الاصغر عند المالكية يحصل التحلل الاول برمي جمرة العقبة وحدها، ويكون باثنين من ثلاثة عند غيرهم: الرمي، والحلق، او التقصير، والطواف مع السعي ان لم يكن سعى واما النحر فلا مدخل له في التحلل، فيحصل التحلل الاول باثنين من ثلاثة، فأي اثنين منها اتى بهما حصل التحلل الاول سواء كان رمياً وحلقاً، او رمياً وطوافاً، او طوافاً وحلقاً، ويحصل التحلل الثاني بالعمل الباقي من الثلاثة.
اختلاف المذاهب، واختيار الارفق
تتحقق الفائدة من هذه القاعدة على المستويين الفردي والجماعي، ويمكن تفعيلها والاستفادة منها.
اما على المستوى الفردي فهذا يقتضي من المفتي معرفة حال المستفتي وظروفه (الحاج) في المرحلة التي هو فيها من مراحل الحج، دون التزام بمذهب معين، فقد قال الفقهاء قديما (العامي لا مذهب له) بل يفتيه بما يصلح حاله ويتحرى له من الاحكام ما يساعده على الاداء الصحيح.
يتجلى التيسير في الاختلاف بين الفقهاء على المستوى الجماعي ويكون بيد المنظمين للحج بوضع جدول للتفويج بتحري مقولات المذاهب المتبعة لكل فئة في المسائل التالية:
1- الوقوف بعرفات: معناه «الكينونة بها حسب شروط معينة، وليس المقصود بالوقوف معناه اللغوي. الوقت المجزئ للوقوف بعرفات «السنة الوقوف بعد الزوال الى غروب الشمس كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عند الحنفية: ان اول زمان الوقوف اذا زالت الشمس من يوم عرفة، واخره اذا طلع الفجر الثاني من يوم النحر فمن ادرك جزءا من اجزاء هذا الوقت فقد ادرك الحج، ومن فاته فقد فاته.
المالكية: الواجب الركني من الوقوف ادنى جزء من أول الليل الى طلوع الفجر بجزء من عرفة.
عند الشافعية: ان وقت الوقوف ما بين زوال الشمس يوم عرفة وطلوع الفجر الثاني من يوم النحر.
عند الحنابلة: وقت الوقوف يبدأ من طلوع فجر يوم عرفة، ويجب ان يجمع في الوقوف بين الليل والنهار، من وقف نهارا فإن دفع من عرفة قبل غروب الشمس فعليه دم ان لم يعد قبله، لانه ترك واجبا لا يفسد الحج بتركه.
2- الوقوف بمزدلفة: اتفق الجمهور على ان الوقوف بالمزدلفة واجب من واجبات الحج.
قدر الواجب ساعة ولو لطيفة من طلوع الفجر الثاني من يوم النحر أوله وآخره طلوع الشمس منه فمن وقف بها قبل طلوع الفجر او بعد طلوع الشمس لا يعتد به، وقدر السنة امتداد الوقوف من مبدأ الصبح الى الاسفار جدا.
المالكية: قدر حط الرحال هو القدر الواجب، المراد به النزول واللبث بها بعضا من الوقت بعد اداء الصلاتين.
الشافعية: يتحقق بلحظة من النصف الثاني من الليل ولو مرورا.
الحنابلة: الدفع بعد نصف الليل.
3- المبيت بمنى: وجوب المبيت عند المالكية، والشافعية، والحنابلة: المبيت بمنى واجب من واجبات الحج يجب دم بتركه، ويكفي من المبيت الاقامة بها معظم الليل، عدا الرعاة، واهل السقاية، ومن في حكمهم من اصحاب الاعمال المتعلقة بتيسير امور الحج، ومن يلزمهم القيام بشؤونهم.
وفي مذهب الحنفية: ليس بواجب ومن تركه فقد اساء، وهو قول اصحاب الرأي ورواية عن الامام احمد رحمه الله تعالى.
4- رمي الجمرات أيام التشريق:
المتفق عليه بين الأمة في رمي الجمرات ايام التشريق الرمي بعد الزوال، وذهبت بعض المذاهب الاسلامية. وعدد من الأئمة والعلماء قديما وحديثا الى ان وقت الرمي في اليوم الثاني وما بعده يبدأ من الفجر فيرمي قبل الزوال.
5- النيابة في رمي الجمرات:
«من عجز عن الرمي بنفسه يستنيب من يرمي عنه، ولا شيء عليه عند غير المالكية».
وعند المالكية: «ان العاجز يستنيب، وعليه دم بخلاف صغير لا يحسن الرمي فيرمي عنه ولا دم».
لهذا فقد اصبح قاعدة فقهية ان: «الأصل رفع الحرج، والدائر مع الحرج دائر مع خلاف الأصل».
التلفيق
التلفيق أو تتبع الرخص وهو: «اتباع كل سهل من الاحكام، وقيل هو ما ينقض به حكم الحاكم من مخالف النص وجلي القياس».
اختلف العلماء في الأخذ بهذا المبدأ فمنهم المانع من الأخذ به، ومنهم من يرى ان الأخذ به من محاسن الشريعة، وانه ينسجم مع قاعدة التيسير.
يقول العلامة شمس الدين محمد عرفة الدسوقي المالكي رحمه الله تعالى: «وفي شب (ابراهيم الشبرخيتي) يمتنع تتبع رخص المذاهب، وفسرها بما ينقض به حكم الحاكم من مخالف النص وجلي القياس.
وقال غيره: ان المراد بتتبع الرخص رفع مشقة التكليف بابتاع كل سهل وفيه ايضا امتناع التلفيق، والذي سمعناه من شيخنا (أبو الحسن علي بن احمد الصعيدي العدوي) نقلا عن شيخه الصغير وغيره. ان الصحيح جوازه وهو فسحة اهـ، وبالجملة ففي التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين طريقتان: «المنع، وهو طريقة المصاروة، والجواز وهو طريقة المغاربة ورجحت».
مرتبتا الشريعة
القول بأن الشريعة الاسلامية جاءت اصالة على مرتبتين التخفيف والتشديد، وان المكلفين على قسمين قوي، وضعيف، ولكل من هذين القسمين احكام تناسبه، وهي نظرية فقهية جامعة مانعة للعلامة الفقية الشيخ عبدالوهاب بن احمد بن علي الانصاري المعروف بالشعراني رحمه الله تعالى، خلاصتها:
«أن الشريعة جاءت من حيث الامر والنهي على مرتبتين تخفيف وتشديد، لاعلى مرتبة واحدة.. فإن جميع المكلفين لايخرجون عن قسمين: قوي، وضعيف من حيث إيمانه، أو جسمه في كل عصر وزمان، فمن قوي منهم خوطب بالتشديد، والاخذ بالعزائم، ومن ضعف منهم خوطب بالتخفيف، والأخذ بالرخص، وكل منهما حينئذ على شريعة من ربه، وتبيان، فلا يؤمر القوي بالنزول الى الرخصة، ولا يكلف الضعيف بالصعود للعزيمة، وقد رفع الخلاف في جميع ادلة الشريعة، واقوال علمائها عند كل من عمل بهذا الميزان».
لهذا المقصد الشرعي دور بارز في تخفيف الكثير من قضايا الحج التي يصعب تطبيقها حسب الاوامر الشرعية الاصلية من اهمها:
1- «نساء الحجيج اذا حضن قبل طواف الافاضة، ولم يمكنهن الاقامة حتى يطهرن؟».
اسهم كثير من الفقهاء في حل هذه القضية التي تزداد تعقيدا مع مرور الزمن، وبخاصة في الوقت الحاضر، فمن عرض لها باجتهاد متأن، ودراسة عملية مبنية على تحليل الواقع للمرأة التي يحدث لها ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، والعلامة ابن حجر الهيثمي المكي فقد عرضا كافة الاحتمالات، وبسطا اقوال العلماء، يقول العلامة ابن حجر الهيثمي المكي رحمه الله تعالى: «ثم رأيت البلقيني استنبط مما ذكروه في الاحصار من الطواف انها اذا لم يمكنها الإقامة حتى تطهر، وجاءت بلدها وهي محرمة، وعدمت النفقة، ولم يمكنها الوصول الى البيت انها كالمحصر فتتحلل بتحلله، وايده في المجموع.
على ان بعض الحنابلة نقل عن طائفة من العلماء ما يصرح بجواز سفرها، وتحللها تحلل المحصر».
ثم يعلق العلامة ابن حجر الهيثمي المكي قائلا: «وإذا علمت ما تقرر فالاليق بمحاسن الشريعة ان من ابتليت بشيء من احد الاقسام الاربعة المذكورة تقلد القائل بما لها فيه مخلص، بل اختار بعض متأخري الشافعية انه لايشترط طهرها اذا لم تتوقع فراغ حيضها قبل سفر الركب للضرر الشديد بالمقام، والرحيل محرمة وأنه يجوز لها دخول المسجد للطواف بعد احكام الشد، والغسل، والعصب كما تباح الصلاة لنحو سلس، وانه لافدية عليها لعذرها..».
وللعلامة الشيخ ابن القيم رحمه الله تعالى تحليل بديع، وتفصيل مفيد في هذا الموضوع تحت عنوان (طواف الحائض بالبيت) ذكر فيه الافتراضات لحل هذه المشكلة، وما يفتى به في الساحة الفقهية، وهي سبعة حلول في نظر القائلين بها، ولكنه ابطلها فقها، وبين استحالتها واقعا، ثم قرر حلا للمشكلة بتقدير ثامن ارتضاه وذلك: «ان يقال: تطوف بالبيت والحالة هذه، وتكون هذه ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض والطواف معه، وليس في هذا ما يخالف قواعد الشرع بل يوافقها، اذ غايته سقوط الواجب، او الشرط بالعجز عنه، ولا واجب في الشريعة مع عجز، ولا حرام مع ضرورة».
يكمن حل هذه المشكلة التي تتعرض لها المرأة لإكمال فريضة الحج فيما ذكره الإمامان: ابن القيم، وابن حجر الهيثمي المكي معا احتياطات الإمام ابن حجرك احكام الشد، والغسل، والعصب، تتخذها المرأة الحائض لدى الطواف بالبيت لاداء ركن طواف الافاضة، مع الاباحة التي قال بها العلامة ابن القيم من قبل انها ضرورة، ومن يذهب الى هذا الرأي من الفقهاء يحقق قاعدة رفع الحرج، ويبرهن على التيسير الذي هو من اهم المقاصد الشرعية التي نادى بها الكتاب الحكيم، والسنة المطهرة.
ومن الامثلة على سماحة الشريعة والرد على الرأي المتشدد: مسألة: هل الاحصار خاص بالعدو، او انه أعم من ذلك: فمن اصيب اثناء احرامه في الحج بعذر او مرض هل يتحلل من احرامه بذبح ما استيسر من الهدي؟ او ان هذا التحلل خاص بإحصار العدو فيظل محرما حتى زوال العذر، او المرض؟
هذا موضع خلاف بين الفقهاء، فذهب مالك والشافعي رحمهما الله تعالى «في ان التحلل من الحج مختص بحصر العدو، وقد خولفا في ذلك..».
«قال عز الدين بن عبدالسلام في قواعد الاحكام، وما ذكره مالك والشافعي رحمهما الله تعالى لانظير له في الشريعة السمحة التي قال الله تعالى فيها (وما جعل عليكم في الدين من حرج)، وقال فيها (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، وقال (يريد الله ان يخفف عنكم) فإن من انكسرت رجله، وتعذر عليه ان يعود الى الحج والعمرة يبقى في بقية عمره حاسر الرأس، متجردا من اللباس، محرما عليه النكاح، والانكاح، وأكل الصيود، والتطيب، والادهان، وقلم الاظفار، وحلق الشعر، ولبس الخفاف، والسراويلات! وهذا بعيد من رحمة الشارع، ورفقه، ولطفه بعباده.
الخاتمة
يخلص البحث في نهايته الى تأكيد ما هو معلوم لدى أهل العلم: ان التيسير على المكلفين في احكام الشريعة الاسلامية فتوى وقضاءً أمر الهي، ومقصد شرعي قطعي منشود في كل مظاهر التشريع الاسلامي، وقد تجلى قولا وعملا في مصادر الشريعة الاسلامية.
لهذا المقصد التشريعي العظيم مظاهر كثيرة في الاحكام العملية، وهو أشد ظهورا، وأبرز فعالية في شعيرة الحج، وبخاصة مشعر منى وشعائرها، بدت معالم هذا المقصد ماضيا وحاضرا في الآتي:
1- (افعل ولا حرج) جملة تشريعية حكيمة، وقانون ذهبي في تيسير اعمال الحج استهل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم اجاباته للصحابة رضوان الله عليهم في ما اعترضهم من اقامة أمور هذه الشعيرة العظيمة، فهي مفتاح التيسير والتسهيل في الحج ينبغي ان تكون كذلك شعارا للمفتين في عصرنا الحاضر الذي تتضاعف فيه أعداد الحجيج من الملايين مع محدودية الزمان والمكان، وان تكون الفتوى على أسس واضحة من الفهم لمقاصد الشريعة، وأصولها.
2- تنوع المذاهب الاسلامية وتعددها في شعيرة الحج بخاصة مظهر واضح من مظاهر التيسير والسماحة في الشريعة الاسلامية ينبغي تفعيله في تيسير أمور الحج والاستفادة العملية منه.
3- توظيف الاختلافات الفقهية في فتاوى الحج كفيل بأن يقضي على الكثير من المشاكل والصعوبات في الوقت الحاضر التي تواجهها الدولة السعودية حفظها الله في تنظيم اعمال الحج، والبذل السخي في كل ما يؤدي الى التخفيف على الحجاج بسبب محدودية الزمان وضيق المكان، وازدياد عدد القاصدين للحج من البلاد الاسلامية.
4- التلفيق الممنوع هو ما ينقض حكم الحاكم من مخالف النص وجلي القياس وما عدا هذا أجازه بعض العلماء وعده من محاسن الشريعة.
5- نحى بعض الفقهاء المعتبرين منحى شرعيا رفيعا ينسجم ومبدأ التيسير في الاحكام على الأمة معتبرا ان الشريعة الاسلامية جاءت أصالة على مرتبتين: التخفيف، والتشديد، وان المكلفين على قسمين: قوي وضعيف، ولكل من هذين القسمين احكام تناسبه، فلا يؤمر القوي بالنزول الى الرخصة ولا يكلف الضعيف بالصعود للعزيمة.
6- الفتوى الشرعية السليمة هي التي تستمد حكمها من النصوص الشرعية والفهم لمقاصدها في ضوء الواقع المعاش هو ما يسميه المالكية (فقه الحال).
7- الفتوى في أمور الحج ينبغي ان يعتمد فيها على كافة الروايات الصحيحة ويعتمد عليها مثلما يعتمد على رواية الصحابي الجليل جابر بن عبدالله رضي الله عنه، وانما كان لروايته رضي الله عنه الاذاعة، والشهرة «لانه ضبط في الحج ما لم يضبطه غيره» يضاف الى هذا النظرة الشاملة في جميع الروايات المختلفة المروية في حجة النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك تأمل اجتهادات الأئمة لها بعدها، وقد خلص الفقهاء المجتهدون الى نتيجة عملية وقاعدة مهمة هي: (ان ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأفضل، وغيره فاضل).
8- الفتوى لعموم الحجاج بفتوى واحدة دون نظر الى المقاصد الشرعية ومآلات الاحكام، وتأمل الواقع المعاش يكشف مرونة الشريعة ويعطل قواعد التيسير التي نص عليها القرآن الكريم وأكدته السنة النبوية المطهرة، وتبناها سلف الأمة، وهذا يتنافى مع روح التيسير على المسلمين، ويكرس المشاكل التي تواجه الحجيج، وبالتالي تؤدي الى الضيق على المسلمين وازهاق النفوس، والتقليل من جدوى المشاريع الكبيرة التي تقوم بها الدولة السعودية على أرض الواقع.
9- الفتوى بما في كتب الفتاوى السابقة من غير تأمل للواقع، ومآلات الأحداث نوع من الشطط والحرفية المجافية لروح التشريع الاسلامي، التي تسبب العنت والحرج الذي يناقض روح السماحة التي تميزت بها التشريعات في الاسلام، وقد قرر هذه الحقيقة العلامة ابن القيم رحمه الله فقال: «انها ضلال في الدين» ولهذا وضع الفقهاء قاعدة شرعية «ان الأصل رفع الحرج، والدائر مع الحرج دائر مع خلاف الأصل».
10- الفائدة ان تسلم للأمة عقيدتها، وتصح لها جوانبها الفقهية التشريعية مكسوة برداء التيسير والتسامح فتستقيم أمورها الاجتماعية والسلوكية وتستعيد وحدتها السياسية وتحقق لها مكانا رفيعا بين الأمم، تستنهض شعوبها لتستعيد عزتها وكرامتها كما أرادها المولى عز وجل، لتصبح عنوانا عمليا على الفكر والسلوك، والتعامل المثالي فتحقق بجدارة أنها أمة مسلمة، لها تميزها بين أمم الأرض، والله الموفق والهادي الى سواء السبيل، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين.
التيسير: يرادف التخفيف، فمن ثم اشار الفقهاء الى هذا المعنى عند ذكر اسباب التسير بقولهم (واعلم ان اسباب التخفيف في العبادات وغيرها سبعة وهي: السفر، المرض، الاكراه، النسيان، الجهل، العسر وعموم البلوى، النقص».
هذه اسباب عامة لا تختص بحالة دون حالة، واقع الحال في شعيرة الحج في الوقت الحاضر الذي يفد لأدائه مئات الالوف تصل اعدادهم الى الملايين هل يمكن ان نضم الى تلك الاسباب اسبابا اخرى خاصة ببعض الامور الشرعية كالزحام غير المألوف بالجموع الغفيرة غير المعتادة كالزحام في الحج عموما، وبعض المشاعر والشعائر خصوصا.
هل يصح ان نضم مثل هذا السبب الى تلك الاسباب؟
احسب ان احدا يعيش تجربة هذه الشعيرة كاملة باستقلالية كاملة دون اعتماد على تحضير مسبق، او تسهيلات توطئ له الامور يمانع في ذلك.
جاء في درر الحكام شرح مجلة الاحكام:
ان الصعوبة التي تصادف في شيء تكون سببا باعثا على تسهيل وتهوين ذلك الشيء، وبعبارة اخرى: يجب التوسيع وقت الضيق، وان التسهيلات الشرعية كلها مستندة على هذه القاعدة، وقد صار تجويزها دفعا للمشقة، وجلبا للتيسير.
التيسير مبدأ مطلوب، ومقصد رفيع من مقاصعد الشريعة في عموم الاحكام، تضافرت به الآيات القرآنية والاحاديث النبوية الشريفة، مجمع على الاخذ به في الاعمال، والاحكام الفرعية، وضع الفقهاء لهذا المقصد قوانين مفصلة، واسسوا له ضوابط وقواعد محكمة حتى لا يلتبس الامر على المكلفين.
هذا المقصد تميزت به جميع شرائع الاسلام واحكامه في اسلوب تشريعي مرن، هو اشد ظهورا، وابرز فعالية في شعيرة الحج في اداء الفرد، والجماعة على السواء، لما تشهده مشاعر الحج من جموع المسلمين باعداد كبيرة في زمان ومكان محدودين، لهذا فان روح السماحة والتيسير بدت واضحة ظاهرة في اجابات المصطفى صلى الله عليه وسلم في العبارة الخالدة، الجامعة المانعة لهذا المبدأ الشرعي عندما يتوجه اليه سؤال في شأن من شؤون الحج بقوله: (افعل ولا حرج)، يمكن لم شتات هذا المقصد العظيم بادئ ذي بدء في خمس قواعد:
فيما يأتي توضيح وتفصيل هذه القواعد الاربع والتمثيل لها من شعيرة الحج في المباحث التالية:
تجلى الاتجاه نحو التيسير واضحا صريحا، ودليلا قاطعا في الآتي:
أولا: اجابات المصطفى صلى الله عليه وسلم في العبارة الخالدة، الجامعة المانعة لهذا المبدأ الشرعي عندما كان يوجه اليه سؤال في شأن من شؤون الحج بقوله (افعل ولا حرج) فيما تواترت روايته عن اسامة بن شريك رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجا فكان الناس يأتونه فمن قائل:
يا رسول الله: سعيت قبل ان اطوف، أو اخرت شيئا، او قدمت شيئا، فكان يقول: لا حرج، لا حرج الا على رجل افترض عرض مسلم وهو ظالم فذلك الذي حرج وهلك ) اخرجه الحاكم في صحيحة المستدرك على الصحيحين، واخرجه الدارقطني، واخرجه ابن حزم في صفة الحج الكبرى.
ثانيا: ومما يعضد هذا المقصد الشرعي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حج مرة واحدة، تلك هي حجة الوداع، وبرغم هذا حدث اختلاف في بعض الاحكام بين الفقهاء، وقد اثار هذا الموضوع سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: قلت لابن عباس رضي الله عنه كيف اختلف الناس في وقت تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حج الا مرة واحدة؟
قال لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دبر صلواته فسمع ذلك قوم من اصحابه رضوان الله عليهم اجمعين فنقلوه، وكان القوم يأتونه ارسالا فلبى حين استوت به راحلته فسمع تلبيته قوم فظنوا انه اول تلبيته، فنقلوا ذلك، ثم لبى حين علا البيداء فسمعه اخرون فظنوا أنه اول تلبيته فنقلوا ذلك، وايم الله ما اوجبها الا في مصلاه.
اهل الحديث جمعوا رواة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا ثلاثين نفرا، فعشرة منهم تروي انه كان قارنا، وعشرة انه كان مفردا، وعشرة انه كان متمتعا..
يتابع العلامة السرخسي تحقيق هذا السبب في اختلاف الفقهاء بحاسة الفقيه الواعي في موضوع اختلاف الرواية في صفة حج رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: «فنوفق بين هذه الروايات فنقول: لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم اولا بالعمرة فسمعه بعض الناس، ثم رأوه بعد ذلك حج فظنوا انه كان متمتعا فنقلوا كما وقع عندهم، ثم لبى بعد ذلك بالحج فسمعه قوم اخرون فظنوا انه كان مفردا بالحج، ثم لبى بهما فسمعه قوم اخرون فعلموا انه كان قارنا، وكل نقل ما وقع عنده، وهو نظير ما رويناه من توفيق ابن عباس رضي الله عنه في اختلاف الروايات في وقت تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم..
نتيجة لهذا اختلف الفقهاء في بعض احكام الحج، وكان من اسباب هذا الاختلاف ما رواه الصحابة رضوان الله عليهم، ونقلوه حسب مشاهدتهم، كل اخبر حسب رؤيته، وصحت روايته لدى كل واحد منهم، فمن ثم نتج عن اختلاف الرواية اختلاف الائمة رضوان الله عليهم حسبما بلغتهم، وصحت روايتهم له.
ثالثا: اجتهاد الأئمة رحمة من الله تعالى واختلافهم مبني على: فهم النصوص لاعتبارات مقاصدية، واصولية، واخرى فقهية، مع تأمل للحالات الواقعية، والاعتبارات الشخصية، والزمانية، والمكانية، وهو ما يسمى لدى علماء المالكية بـ (فقه الحال)، وما نسميه اليوم بـ (فقه الواقع)، ومآلات الاحكام.
في ضوء هذه الاعتبارات قرر الفقهاء ضابطا فقهيا في شعيرة الحج ينسجم ومواقف النبي صلى الله عليه وسلم في حجته واستفتاء اصحابه رضوان الله عليهم هو: (ان فعله صلى الله عليه وسلم محمول على الافضل) ويعني هذا فقها ان ما عداه جائز، فاضل.
رابعا: تأثر الفقهاء في دراسة احكام المناسك بكل ما تقدم فجاءت عباراتهم دائما تردد ذكر حكم الجواز للفعل، وذكر الافضل في الاداء.
يتم هنا تتبع هذا لمقصد الشرعي (التيسير) في شعائر منى بخاصة:
1- رمي جمرة العقبة يوم العيد:
جواز رميها بعد نصف الليل مطلقا للقادر والعاجز، الافضل رميها بعد طلوع الفجر لمن قدر على ذلك.
2- نحر الهدي، أو ذبحه:
وقته الافضل عقب رمي جمرة العقبة قبل الحلق، واما اذا كان الهدي واجبا بسبب الاحرام في تمتع، او قران، او غيرهما من الجبرانات والمحظورات فوقته من حين وجود سببه.
3- الحلق، أو التقصير:
الافضل الحلق، والجواز هو التقصير.
4- طواف الافاضة:
الذي به تمام الحج، اجمع فقهاء الاسلام على ان طواف الافاضة والسعي لمن لم يسبق له سعي الحج، الافضل يوم النحر بعد طلوع الفجر، وقت الجواز بعد نصف ليلة العيد عند الشافعية والحنابلة.
اخر وقت الاداء عند الحنفية والشافعية، والحنابلة غير محدود، المالكية تمام شهر ذي الحجة.
من تمكن من الوصول الى مكة المكرمة قبل نصف الليل فانه يؤدي شعائر طواف الافاضة والسعي اذا خاف على نفسه من شدة الزحام التي تمتلئ بها جنبات المسجد الحرام، وأدواره بعد نفر الناس بعد رمي جمرة العقبة، وقد كان يؤديه بعض العلماء الثقات من علماء مكة المكرمة حين كان يتيسر لهم الوصول الى مكة المكرمة مبكرا.
5- تقديم سعي الحج لأهل مكة:
قال الشيخ ابو نصر: ويجوز لمن احرم بالحج من مكة اذا طاف للوادع لخروجه الى منى ان يقدم السعي بعد هذا الطواف.
يقول العلامة ابو الحسين يحيى العمراني الشافعي (ودليلنا ما روي ان ابن عمر كان يفعل ذلك اذا احرم من مكة، وروي ان ابن الزبير لما اهل هلال ذي الحجة اهل وطاف وسعى وخرج، واجاز ذلك القاسم بن محمد، ولانه اذا جاز ذلك لمن احرم من غير مكة جاز ذلك لمن احرم منها.
6- ترتيب مناسك يوم النحر:
نص الفقهاء على ترتيب مناسك يوم النحر كالتالي: رمي جمرة العقبة أولا، ثم النحر، او الذبح ثانيا، ثم الحلق، او التقصير ثالثا، ثم طواف الافاضة، رابعا.
من الفقهاء من يرى استحباب الترتيب وانه لا دم على من خالف ذلك عمدا، أو سهوا وهم الحنفية والشافعية والحنابلة ومنهم من يرى وجوب الفدية على المتعمد.
7- صلاة العيد:
سقوطها عن الحاج للاشتغال في ذلك اليوم بالمناسك: من الرمي والذبح والحلق وطواف الافاضة وغيرها.
التنوع التخييري في الاحكام
يتجلى هذا المقصد فيما يطالب المكلف بادائه لواحد من امور متعددة، له اختيار ما يناسبه منها، وينسجم مع حالته المادية، او الصحية بما يخفف عنه مشقة التكليف، وهذا ظاهر في كثير من شعائر الحج، وعباداته منها على سبيل المثال:
1- الميقات وهو نقطة البداية التي يحرم منها الحاج حسب الجهة التي هو فيها ليس محدودا بنقطة محددة، بل يحرم قاصد الحج من المكان الذي يسهل عليه الاحرام منه من ميقاته الذي يمر به وكما هو معروف ان المواقيت تقع على اودية واسعة ممتدة امتدادا طويلا يبلغ عشرات الاميال فمن اي نقطة احرم منها الحاج اجزأه، وان كان الافضل بداياتها.
2- انواع الاحرام: الافراد والقران، والتمتع، والاطلاق.
3- اتساع وقت الوقوف بعرفة، والمزدلفة والمبيت بمنى حيث تمتد زمنا.
4- رمي الجمرات يمتد وقته من الفجر الى الفجر، او من الزوال الى الفجر حسب الاختلاف المذهبي.
5- هدي التمتع والقران: ذبح شاة نسكا ان يكن الحاج موسرا بقيمة الدم، والا فصيام عشرة ايام: ثلاثة في الحج، وسبعة اذا رجع، ومن عليه فديه، لترك غير مأذون فيه، وهو ترك الاحرام من الميقات او الرمي او الجمع بين الليل والنهار بعرفة، او المبيت بمزدلفة او بمنى، او طواف الوداع.. فمن ترك واجبا من هذه لزمه دم شاة فصاعدا، فان عجز فالاصح -عند الشافعية- انه كالمتمتع فيصوم ثلاثة ايام في الحج وسبعة اذ رجع الى أهله، وقيل اذا عجز قومت الشاة دراهم واشترى بها طعاما وتصدق به، فان عجز عن الطعام صام عن كل مد يوما.
6- العقوبة لفعل محظور من محظورات الاحرام «ذبح شاة، او اطعام ستة مساكين، كل مسكين نصف صاع، او صايم ثلاثة أيام، مرتكبه مخير بين الامور الثلاثة».
7- التحلل الاصغر عند المالكية يحصل التحلل الاول برمي جمرة العقبة وحدها، ويكون باثنين من ثلاثة عند غيرهم: الرمي، والحلق، او التقصير، والطواف مع السعي ان لم يكن سعى واما النحر فلا مدخل له في التحلل، فيحصل التحلل الاول باثنين من ثلاثة، فأي اثنين منها اتى بهما حصل التحلل الاول سواء كان رمياً وحلقاً، او رمياً وطوافاً، او طوافاً وحلقاً، ويحصل التحلل الثاني بالعمل الباقي من الثلاثة.
اختلاف المذاهب، واختيار الارفق
تتحقق الفائدة من هذه القاعدة على المستويين الفردي والجماعي، ويمكن تفعيلها والاستفادة منها.
اما على المستوى الفردي فهذا يقتضي من المفتي معرفة حال المستفتي وظروفه (الحاج) في المرحلة التي هو فيها من مراحل الحج، دون التزام بمذهب معين، فقد قال الفقهاء قديما (العامي لا مذهب له) بل يفتيه بما يصلح حاله ويتحرى له من الاحكام ما يساعده على الاداء الصحيح.
يتجلى التيسير في الاختلاف بين الفقهاء على المستوى الجماعي ويكون بيد المنظمين للحج بوضع جدول للتفويج بتحري مقولات المذاهب المتبعة لكل فئة في المسائل التالية:
1- الوقوف بعرفات: معناه «الكينونة بها حسب شروط معينة، وليس المقصود بالوقوف معناه اللغوي. الوقت المجزئ للوقوف بعرفات «السنة الوقوف بعد الزوال الى غروب الشمس كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عند الحنفية: ان اول زمان الوقوف اذا زالت الشمس من يوم عرفة، واخره اذا طلع الفجر الثاني من يوم النحر فمن ادرك جزءا من اجزاء هذا الوقت فقد ادرك الحج، ومن فاته فقد فاته.
المالكية: الواجب الركني من الوقوف ادنى جزء من أول الليل الى طلوع الفجر بجزء من عرفة.
عند الشافعية: ان وقت الوقوف ما بين زوال الشمس يوم عرفة وطلوع الفجر الثاني من يوم النحر.
عند الحنابلة: وقت الوقوف يبدأ من طلوع فجر يوم عرفة، ويجب ان يجمع في الوقوف بين الليل والنهار، من وقف نهارا فإن دفع من عرفة قبل غروب الشمس فعليه دم ان لم يعد قبله، لانه ترك واجبا لا يفسد الحج بتركه.
2- الوقوف بمزدلفة: اتفق الجمهور على ان الوقوف بالمزدلفة واجب من واجبات الحج.
قدر الواجب ساعة ولو لطيفة من طلوع الفجر الثاني من يوم النحر أوله وآخره طلوع الشمس منه فمن وقف بها قبل طلوع الفجر او بعد طلوع الشمس لا يعتد به، وقدر السنة امتداد الوقوف من مبدأ الصبح الى الاسفار جدا.
المالكية: قدر حط الرحال هو القدر الواجب، المراد به النزول واللبث بها بعضا من الوقت بعد اداء الصلاتين.
الشافعية: يتحقق بلحظة من النصف الثاني من الليل ولو مرورا.
الحنابلة: الدفع بعد نصف الليل.
3- المبيت بمنى: وجوب المبيت عند المالكية، والشافعية، والحنابلة: المبيت بمنى واجب من واجبات الحج يجب دم بتركه، ويكفي من المبيت الاقامة بها معظم الليل، عدا الرعاة، واهل السقاية، ومن في حكمهم من اصحاب الاعمال المتعلقة بتيسير امور الحج، ومن يلزمهم القيام بشؤونهم.
وفي مذهب الحنفية: ليس بواجب ومن تركه فقد اساء، وهو قول اصحاب الرأي ورواية عن الامام احمد رحمه الله تعالى.
4- رمي الجمرات أيام التشريق:
المتفق عليه بين الأمة في رمي الجمرات ايام التشريق الرمي بعد الزوال، وذهبت بعض المذاهب الاسلامية. وعدد من الأئمة والعلماء قديما وحديثا الى ان وقت الرمي في اليوم الثاني وما بعده يبدأ من الفجر فيرمي قبل الزوال.
5- النيابة في رمي الجمرات:
«من عجز عن الرمي بنفسه يستنيب من يرمي عنه، ولا شيء عليه عند غير المالكية».
وعند المالكية: «ان العاجز يستنيب، وعليه دم بخلاف صغير لا يحسن الرمي فيرمي عنه ولا دم».
لهذا فقد اصبح قاعدة فقهية ان: «الأصل رفع الحرج، والدائر مع الحرج دائر مع خلاف الأصل».
التلفيق
التلفيق أو تتبع الرخص وهو: «اتباع كل سهل من الاحكام، وقيل هو ما ينقض به حكم الحاكم من مخالف النص وجلي القياس».
اختلف العلماء في الأخذ بهذا المبدأ فمنهم المانع من الأخذ به، ومنهم من يرى ان الأخذ به من محاسن الشريعة، وانه ينسجم مع قاعدة التيسير.
يقول العلامة شمس الدين محمد عرفة الدسوقي المالكي رحمه الله تعالى: «وفي شب (ابراهيم الشبرخيتي) يمتنع تتبع رخص المذاهب، وفسرها بما ينقض به حكم الحاكم من مخالف النص وجلي القياس.
وقال غيره: ان المراد بتتبع الرخص رفع مشقة التكليف بابتاع كل سهل وفيه ايضا امتناع التلفيق، والذي سمعناه من شيخنا (أبو الحسن علي بن احمد الصعيدي العدوي) نقلا عن شيخه الصغير وغيره. ان الصحيح جوازه وهو فسحة اهـ، وبالجملة ففي التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين طريقتان: «المنع، وهو طريقة المصاروة، والجواز وهو طريقة المغاربة ورجحت».
مرتبتا الشريعة
القول بأن الشريعة الاسلامية جاءت اصالة على مرتبتين التخفيف والتشديد، وان المكلفين على قسمين قوي، وضعيف، ولكل من هذين القسمين احكام تناسبه، وهي نظرية فقهية جامعة مانعة للعلامة الفقية الشيخ عبدالوهاب بن احمد بن علي الانصاري المعروف بالشعراني رحمه الله تعالى، خلاصتها:
«أن الشريعة جاءت من حيث الامر والنهي على مرتبتين تخفيف وتشديد، لاعلى مرتبة واحدة.. فإن جميع المكلفين لايخرجون عن قسمين: قوي، وضعيف من حيث إيمانه، أو جسمه في كل عصر وزمان، فمن قوي منهم خوطب بالتشديد، والاخذ بالعزائم، ومن ضعف منهم خوطب بالتخفيف، والأخذ بالرخص، وكل منهما حينئذ على شريعة من ربه، وتبيان، فلا يؤمر القوي بالنزول الى الرخصة، ولا يكلف الضعيف بالصعود للعزيمة، وقد رفع الخلاف في جميع ادلة الشريعة، واقوال علمائها عند كل من عمل بهذا الميزان».
لهذا المقصد الشرعي دور بارز في تخفيف الكثير من قضايا الحج التي يصعب تطبيقها حسب الاوامر الشرعية الاصلية من اهمها:
1- «نساء الحجيج اذا حضن قبل طواف الافاضة، ولم يمكنهن الاقامة حتى يطهرن؟».
اسهم كثير من الفقهاء في حل هذه القضية التي تزداد تعقيدا مع مرور الزمن، وبخاصة في الوقت الحاضر، فمن عرض لها باجتهاد متأن، ودراسة عملية مبنية على تحليل الواقع للمرأة التي يحدث لها ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، والعلامة ابن حجر الهيثمي المكي فقد عرضا كافة الاحتمالات، وبسطا اقوال العلماء، يقول العلامة ابن حجر الهيثمي المكي رحمه الله تعالى: «ثم رأيت البلقيني استنبط مما ذكروه في الاحصار من الطواف انها اذا لم يمكنها الإقامة حتى تطهر، وجاءت بلدها وهي محرمة، وعدمت النفقة، ولم يمكنها الوصول الى البيت انها كالمحصر فتتحلل بتحلله، وايده في المجموع.
على ان بعض الحنابلة نقل عن طائفة من العلماء ما يصرح بجواز سفرها، وتحللها تحلل المحصر».
ثم يعلق العلامة ابن حجر الهيثمي المكي قائلا: «وإذا علمت ما تقرر فالاليق بمحاسن الشريعة ان من ابتليت بشيء من احد الاقسام الاربعة المذكورة تقلد القائل بما لها فيه مخلص، بل اختار بعض متأخري الشافعية انه لايشترط طهرها اذا لم تتوقع فراغ حيضها قبل سفر الركب للضرر الشديد بالمقام، والرحيل محرمة وأنه يجوز لها دخول المسجد للطواف بعد احكام الشد، والغسل، والعصب كما تباح الصلاة لنحو سلس، وانه لافدية عليها لعذرها..».
وللعلامة الشيخ ابن القيم رحمه الله تعالى تحليل بديع، وتفصيل مفيد في هذا الموضوع تحت عنوان (طواف الحائض بالبيت) ذكر فيه الافتراضات لحل هذه المشكلة، وما يفتى به في الساحة الفقهية، وهي سبعة حلول في نظر القائلين بها، ولكنه ابطلها فقها، وبين استحالتها واقعا، ثم قرر حلا للمشكلة بتقدير ثامن ارتضاه وذلك: «ان يقال: تطوف بالبيت والحالة هذه، وتكون هذه ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض والطواف معه، وليس في هذا ما يخالف قواعد الشرع بل يوافقها، اذ غايته سقوط الواجب، او الشرط بالعجز عنه، ولا واجب في الشريعة مع عجز، ولا حرام مع ضرورة».
يكمن حل هذه المشكلة التي تتعرض لها المرأة لإكمال فريضة الحج فيما ذكره الإمامان: ابن القيم، وابن حجر الهيثمي المكي معا احتياطات الإمام ابن حجرك احكام الشد، والغسل، والعصب، تتخذها المرأة الحائض لدى الطواف بالبيت لاداء ركن طواف الافاضة، مع الاباحة التي قال بها العلامة ابن القيم من قبل انها ضرورة، ومن يذهب الى هذا الرأي من الفقهاء يحقق قاعدة رفع الحرج، ويبرهن على التيسير الذي هو من اهم المقاصد الشرعية التي نادى بها الكتاب الحكيم، والسنة المطهرة.
ومن الامثلة على سماحة الشريعة والرد على الرأي المتشدد: مسألة: هل الاحصار خاص بالعدو، او انه أعم من ذلك: فمن اصيب اثناء احرامه في الحج بعذر او مرض هل يتحلل من احرامه بذبح ما استيسر من الهدي؟ او ان هذا التحلل خاص بإحصار العدو فيظل محرما حتى زوال العذر، او المرض؟
هذا موضع خلاف بين الفقهاء، فذهب مالك والشافعي رحمهما الله تعالى «في ان التحلل من الحج مختص بحصر العدو، وقد خولفا في ذلك..».
«قال عز الدين بن عبدالسلام في قواعد الاحكام، وما ذكره مالك والشافعي رحمهما الله تعالى لانظير له في الشريعة السمحة التي قال الله تعالى فيها (وما جعل عليكم في الدين من حرج)، وقال فيها (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، وقال (يريد الله ان يخفف عنكم) فإن من انكسرت رجله، وتعذر عليه ان يعود الى الحج والعمرة يبقى في بقية عمره حاسر الرأس، متجردا من اللباس، محرما عليه النكاح، والانكاح، وأكل الصيود، والتطيب، والادهان، وقلم الاظفار، وحلق الشعر، ولبس الخفاف، والسراويلات! وهذا بعيد من رحمة الشارع، ورفقه، ولطفه بعباده.
الخاتمة
يخلص البحث في نهايته الى تأكيد ما هو معلوم لدى أهل العلم: ان التيسير على المكلفين في احكام الشريعة الاسلامية فتوى وقضاءً أمر الهي، ومقصد شرعي قطعي منشود في كل مظاهر التشريع الاسلامي، وقد تجلى قولا وعملا في مصادر الشريعة الاسلامية.
لهذا المقصد التشريعي العظيم مظاهر كثيرة في الاحكام العملية، وهو أشد ظهورا، وأبرز فعالية في شعيرة الحج، وبخاصة مشعر منى وشعائرها، بدت معالم هذا المقصد ماضيا وحاضرا في الآتي:
1- (افعل ولا حرج) جملة تشريعية حكيمة، وقانون ذهبي في تيسير اعمال الحج استهل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم اجاباته للصحابة رضوان الله عليهم في ما اعترضهم من اقامة أمور هذه الشعيرة العظيمة، فهي مفتاح التيسير والتسهيل في الحج ينبغي ان تكون كذلك شعارا للمفتين في عصرنا الحاضر الذي تتضاعف فيه أعداد الحجيج من الملايين مع محدودية الزمان والمكان، وان تكون الفتوى على أسس واضحة من الفهم لمقاصد الشريعة، وأصولها.
2- تنوع المذاهب الاسلامية وتعددها في شعيرة الحج بخاصة مظهر واضح من مظاهر التيسير والسماحة في الشريعة الاسلامية ينبغي تفعيله في تيسير أمور الحج والاستفادة العملية منه.
3- توظيف الاختلافات الفقهية في فتاوى الحج كفيل بأن يقضي على الكثير من المشاكل والصعوبات في الوقت الحاضر التي تواجهها الدولة السعودية حفظها الله في تنظيم اعمال الحج، والبذل السخي في كل ما يؤدي الى التخفيف على الحجاج بسبب محدودية الزمان وضيق المكان، وازدياد عدد القاصدين للحج من البلاد الاسلامية.
4- التلفيق الممنوع هو ما ينقض حكم الحاكم من مخالف النص وجلي القياس وما عدا هذا أجازه بعض العلماء وعده من محاسن الشريعة.
5- نحى بعض الفقهاء المعتبرين منحى شرعيا رفيعا ينسجم ومبدأ التيسير في الاحكام على الأمة معتبرا ان الشريعة الاسلامية جاءت أصالة على مرتبتين: التخفيف، والتشديد، وان المكلفين على قسمين: قوي وضعيف، ولكل من هذين القسمين احكام تناسبه، فلا يؤمر القوي بالنزول الى الرخصة ولا يكلف الضعيف بالصعود للعزيمة.
6- الفتوى الشرعية السليمة هي التي تستمد حكمها من النصوص الشرعية والفهم لمقاصدها في ضوء الواقع المعاش هو ما يسميه المالكية (فقه الحال).
7- الفتوى في أمور الحج ينبغي ان يعتمد فيها على كافة الروايات الصحيحة ويعتمد عليها مثلما يعتمد على رواية الصحابي الجليل جابر بن عبدالله رضي الله عنه، وانما كان لروايته رضي الله عنه الاذاعة، والشهرة «لانه ضبط في الحج ما لم يضبطه غيره» يضاف الى هذا النظرة الشاملة في جميع الروايات المختلفة المروية في حجة النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك تأمل اجتهادات الأئمة لها بعدها، وقد خلص الفقهاء المجتهدون الى نتيجة عملية وقاعدة مهمة هي: (ان ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأفضل، وغيره فاضل).
8- الفتوى لعموم الحجاج بفتوى واحدة دون نظر الى المقاصد الشرعية ومآلات الاحكام، وتأمل الواقع المعاش يكشف مرونة الشريعة ويعطل قواعد التيسير التي نص عليها القرآن الكريم وأكدته السنة النبوية المطهرة، وتبناها سلف الأمة، وهذا يتنافى مع روح التيسير على المسلمين، ويكرس المشاكل التي تواجه الحجيج، وبالتالي تؤدي الى الضيق على المسلمين وازهاق النفوس، والتقليل من جدوى المشاريع الكبيرة التي تقوم بها الدولة السعودية على أرض الواقع.
9- الفتوى بما في كتب الفتاوى السابقة من غير تأمل للواقع، ومآلات الأحداث نوع من الشطط والحرفية المجافية لروح التشريع الاسلامي، التي تسبب العنت والحرج الذي يناقض روح السماحة التي تميزت بها التشريعات في الاسلام، وقد قرر هذه الحقيقة العلامة ابن القيم رحمه الله فقال: «انها ضلال في الدين» ولهذا وضع الفقهاء قاعدة شرعية «ان الأصل رفع الحرج، والدائر مع الحرج دائر مع خلاف الأصل».
10- الفائدة ان تسلم للأمة عقيدتها، وتصح لها جوانبها الفقهية التشريعية مكسوة برداء التيسير والتسامح فتستقيم أمورها الاجتماعية والسلوكية وتستعيد وحدتها السياسية وتحقق لها مكانا رفيعا بين الأمم، تستنهض شعوبها لتستعيد عزتها وكرامتها كما أرادها المولى عز وجل، لتصبح عنوانا عمليا على الفكر والسلوك، والتعامل المثالي فتحقق بجدارة أنها أمة مسلمة، لها تميزها بين أمم الأرض، والله الموفق والهادي الى سواء السبيل، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين.